الاحتفال بسيدتنا مريم العذراء أم الله ويوم السلام العالمي ٢٠٢٣
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
الإخوة الأساقفة الأجلاء،
سلام المسيح معكم جميعًا.
قبل أسبوع كنا في بيت لحم، مع الرعاة، لنسجد لأمير السلام الآتي إلى العالم. بعد أسبوع، تجتمع كنيستنا لتحتفل، بمريم والدة الإله. إنه لقب عزيز على الكنائس الشرقية، وهو إيمان كل الكنائس. إننا ننحني أمام سر الكلمة الذي صار بشرًا، وجاء إلى العالم مولودًا من مريم البتول.
اعتادت كنيستنا في بدء السنة الميلادية أن تتوجه إلى مريم والدة الله، لتطلب نعمة السلام في هذا اليوم، يوم السلام العالمي.
اعتدنا أن نطلب نعمة السلام من الله بوساطة البتول الكلية القداسة: وهو أمر جميل وحسن. لكن لا ننسَ أن السلام لا يوجد إن كانت صلواتنا لا تتفق مع خياراتنا. كما قلنا مرارًا كثيرة، السلام هو ثمرة اللقاء بين نعمة الله التي نُعطاها، وبين خياراتنا الحرة. الملائكة تنشد السلام، ليس فقط لتبشر بابن الله الذي جاء إنسانًا مثلنا، لكن أيضًا لأنه اختار أن يأتي بيننا متواضعًا، وليس عن طريق القدرة والسلطان.
السلام الذي نطلبه يجب أن يكون خيارًا نختاره نحن.
ومن ثم نبدأ سنة جديدة تحت علامة السلام. ونحن مدعوُوّن ليس فقط إلى أن نبتهل ونستقبل هبة من الله، بل أن نُنَمِّيَ في قلوبنا رغبة وأملًا في سلام ممكن. نحن مدعُوّون إلى أن نؤمن أن السلام ليس فقط شعارًا. نحن مدعُوّون إلى أن نختار ونصنع السلام. في هذه الأرض، يبدو السلام خيالًا. وكذلك في العالم. فبالغرم من كل التصريحات المبدئية، يستمر العالم بالحروب، ويجعلها أداة للسيطرة والسلطان. كل يوم في الواقع نسمع أخبار موت، ومظالم، وعنف. وكل يوم نُدعَى لنتَّخذ موقفًا، لنشكو ونندِّد ونحكم. لكن هذا أيضا مع الوقت يصبح طقسًا لا يُسمَع ولا يؤثر، لأنه صار جزءًا من عادة ومراسيم.
في هذا السياق الحزين والأليم، التجربة هي أن ننسحب، وأن نتوقف عن كل التزام، من أجل سلام صار يبدو بعيدًا، ولا يمكن تحقيقه. قد يكون أمرًا بعيد المنال فأصبحنا لا نؤمن به.
لكن ليس هذا هو الإيمان والرجاء في الكنيسة. نحن نريد السلام ونؤمن بالسلام، وبأنه هبة من الله، والتزام لا بد منه في جماعتنا، ولكل رجل وامرأة في هذا العالم. ليس خيالا، إنه بالأحرى نبوءة.
الكنيسة، كنيستنا، في كل أقسامها، واليوم أكثر من كل يوم مضى، عليها أن تكون الطريق البديل، فتتخذ خيارات أمير السلام.
أن نحوِّل نظرنا إلى كل إنسان، أن نلتزم من أجل العدل والسلام في العلاقات الاجتماعية والسياسية، وأن نتخذ قرارنا لاحترام ولكرامة كل إنسان، كل هذا جزء مكوِّنٌ من هوية الكنيسة، وثمرة مباشرة للقائنا مع المسيح، هو نتيجة حتمية ومباشرة لإيمان ناضج. كما قلنا، السلام هبة نقبلها، لكن يجب أن تلتقي أيضًا مع حريتنا وخيارنا الحر.
إن من مقوّمات دعوة الكنيسة، صنع السلام، زرع السلام، والقناعة الواثقة أن الله يعمل معنا، ويروي بنعمته الأرض التي يحرثها صانعو السلام.
إذن لنبذل جهودنا في أعمال السلام.
أول عمل هو عودة حازمة إلى إنجيل السلام: قراءته، تأمّله، عيشه، وترجمته إلى طرق عيش يومية. إنجيل السلام هو إنجيل المحبة، والعطاء، والمغفرة، والصبر. بعد أيام نحتفل من جديد بيوم كلمة الله. أعتبره مثل تكملة لهذا اليوم. في الواقع، من دون الرجوع إلى الإنجيل، من دون إيمان يغذيه اللقاء مع كلمة الله، توشك أعمالنا أن تبقى أعمالًا اجتماعية فقط، ونتيجة لذلك، تفقد إمكانية الرؤية الرحبة، وحرية الخروج من إطار عملنا. والإيمان المتأصل فينا وحده يمكن أن يمنحنا هذه الحرية. من دون حضور الله، تبقى خياراتنا على مستوى البشر، ومن ثم لا روح فيها.
العمل الثاني، هو رجوع حاسم إلى العالم، إلى الواقع كما هو. من جهة، يجب أن ننمِّي ونحفظ الحياة الإلهية فينا، ومن جهة ثانية، نحن مدعُوّون إلى أن نحب العالم، وأن نجعل إيماننا الذي يسندنا حاضرًا في حياة العالم. نحن أيضا مدعوُّون إلى نصير نوعًا ما على مثل مريم أم الله، التي، بطاعتها، ولدت للعالم يسوع أمير السلام. هذه هي دعوتنا اليوم ورسالتنا كمؤمنين، أن نعرِّف بيسوع وأن نجعله يولد في حياة العالم، بإيمان نعبّر عنه بعملنا من أجل السلام والعدل. "بأعمالي أريك إيماني" (يع ٢: ١٨).
نعلم أن الأمر ليس بسيطًا. التجربة تميل بنا مرارًا لكي نستسلم لهذا العالم العنيف، وللمظالم. نشعر بأنفسنا عاجزين، تسحقنا أوضاع تبدو في أماكن عديدة في العالم أكبر منا، ولا مخرج لها. أفكر بصورة خاصة في أرضنا المقدسة، حيث الصراع جزء من الحياة اليومية في كل بيت، وكل عائلة، وكل شخص، ويترك جراحًا لا نتخيلها. إنه يحوّل الحياة اليومية إلى جهد مستمر ينهك القوى، ويترك في قلوب الكثيرين مشاعر المذلة، التي تولد بدورها الأحقاد. وأفكر في شبابنا. لا شيء يحفزهم بسبب الإحباطات الكثيرة، وفي الوقت نفسه يحلمون بحياة أفضل في مكان آخر. أفكر في الحياة السياسية في بلداننا هذه، التي تزداد بعدًا كل يوم عن الحياة الواقعية للسكان. وهي غير قادرة على أن يكون لها رؤى واضحة، ومشاريع جديدة للمواطنين.
ميلاد المسيح، الإيمان بالتجسد، يجب أن يحملنا على أن نفكر بطريقة أخرى. أمير السلام لم يحب عالمًا تجريديا، ولم يتجسد في سياق مثالي مكمَّل، لم ينتظر وقتًا مناسبًا، لكنه قدّس العالم، وجعل وقت مجيئه مناسبًا بما حمل إلينا.
هذا صحيح لنا أيضًا: عملنا بضوء الإيمان، يمكن أن يجعل كل شيء مقدَّسًا ومناسبًا، حتى في واقعنا المثخن بالجراح والذي يمزِّقه الصراع. الحياة في الأرض المقدسة ستكون مقدسة ومناسبة ليس عندما تتبدل الأوقات، بل عندما نقرر نحن أن نجعلها كذلك. حبنا والتزامنا واندفاعنا هو الذي يجعل الحياة جميلة وكريمة. إيماننا يجب إن يدفعنا إلى هذا، أن نبذل حياتنا الآن وهنا. وإن لم يتغير الواقع، تتغير الطريقة التي بها نواجه الواقع.
عمل السلام الثالث، هو رجوع جدِّيٌّ إلى الذات.
الخيارات تنطلق من قلب الإنسان. ربما يجب أن نتصالح جميعًا مع أنفسنا، ومع توقعاتنا، ومع أوهامنا التي توشك أن تؤدي بنا مرارًا إلى خيبة الأمل. لربما يجب أن نتعلم، مع الوقت، أن نطهّر توقعاتنا، التي تلوِّثها مرارًا كبرياؤنا. الوحدة التي نتوقعها في مجتمعنا، تحتاج أيضًا إلى قلب واحد مصالَح. قلب يعرف المغفرة، ومن ثم قادر أن ينفتح على الآخر بثقة وبلا خوف. لا معنى للكلام عن السلام، إن كان قلبنا نفسه منقسمًا. لا مصداقية لنا في عملنا من أجل العدل إن لم تكن حياتنا الشخصية، وعلاقاتنا مضيئة وشفافة. لسنا صُنّاع سلام إن كان قلبنا يسكنه الغضب والحقد.
بالنسبة للمؤمنين بالمسيح، وللكنيسة، صنع السلام يتطلب ليس أن نهرب من الزمان والمكان، أو أن نملأهما بالغضب والحقد أو الاستسلام، بل أن نحبّهما، وأن نخدم البشر، وإن لزم تأنيبهم، وأن نعاملهم دوما بالحب والصبر، وأن نزرع فيهم بذار السلام.
صنع السلام، هو في الحقيقة، أن نكون في العالم، ولكن بأسلوب يسوع. أعني ان ننشر روحانية التجسد الذي نحتفل به في هذه الأيام، والذي يجب أن نعيشها كل يوم في العالم، بصبر ومحبة، واثقين أن عالمنا هذا، كما هو، وبالرغم من كل شيء، هو المكان الذي فيه "الحب والحق يلتقيان، والعدل والسلام يتلاثمان" (مزمور ٨٥: ١١).
كل عام وأنتم بخير. سنة جديدة مباركة.
†بييرباتيستا بيتسابالا
بطريرك القدس للاتين