عظة خميس الأسرار
١٨ نيسان ٢٠١٩
(تكوين ٢٢: ١–١٨؛ خروج ١٢: ١–١٤؛ أمثال ٩: ١–٦ و١٠–١١؛ ١ قورنتس ١١: ٢٣–٢٦؛ يوحنا ١٣: ١–١٥).
اجتمعنا هنا اليوم لنحتفل بذكرى الفصح، فيه وهبنا يسوع ذاته، بصورة سرية ولكنها حقيقية. الرب بذل حياته في سبيلنا، وجعلنا شركاء في قيامته. في احتفالنا اليوم، نرى يسوع يخلع رداءه، ويأتزر بمنديل الخادم والعبد، ويركع أمام أقدامنا ويغسلها. ليس هذا فقط عملًا صالحًا، ولا تعبيرًا عن تواضع فيه. بل فيه، كما يقول القديس بولس، سرٌّ عظيم، وحقيقة سامية. الكلمة الأزلي تجرّد من مجده، ليتَّخذ ضعف طبيعتنا البشرية وليرفعها فيَسمُوَ بها إلى سُمُوّ حياته الإلهية. قال القديس بولس: “هو الذي، مع أنه في صورة الله، لم يعد مساواته لله غنيمة، بل تجرد من ذاته متخذا صورة العبد، وصار على مثال البشر، وظهر في هيئة إنسان. فوضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب” (فيلبي ٢: ٦–٨). كل إنسان، كل قلب بشر، أيًّا كان، يبقى مندهشا أمام هذا الحدث. نحن اليوم أيضا مندهشون، بل نكاد لا نصدق أن يكون الحب على هذه الصورة. هو حب بلغ أقصى الحدود، لا حدود له، ولا تردد فيه أو تحفُّظ.
أريد في هذا العام، معكم جميعا، أن أثير في نفسي ونفوسكم الاندهاش، بل الإحساس بالتشكك، أمام ما صنع يسوع المسيح، لما غسل اقدام الرسل، ولما وضع سر الإفخارستيا في صورة الخبز والخمر، ولما وكّل إلينا الخدمة الكهنوتية، فسلَّم نفسه بين أيدينا، وأخيرا ترك نفسه يُسمَّر على صليب خطيئتنا. أريد في هذه الإفخارستيا معكم جميعا أن أجلس إلى جانب بطرس، فأقول أنا أيضًا: “يا رب أأنت تغسل قدميّ؟” (يوحنا ١٣: ٦).
لا أريد أن أثير في نفسي ونفسكم اندهاشًا عاطفيًّا سطحيًّا. موقف بطرس كان موقف رفض لهذا التنازل من قبل يسوع المسيح، كان موقفًا عفويًّا صادقًا، ولكن فيه أيضًا جهل. ويجب أن نعترف أن موقفنا أيضا حتى اليوم يشبه موقف بطرس بما فيه من عفوية وجهل. وقال يسوع لبطرس: “ما أنا صانعه أنت لا تفهمه الآن” (يوحنا ١٣: ٧).
نحن نعيش في زمن يسود فيه الخوف من الآخر، ورفضُ الأخ، ورجوع إلى مفهوم فردي للحياة، وللإيمان ايضا. هذه سمات في حياتنا اليوم. ومثل بطرس نتوهم أن حياتنا وبقاءنا يتطلب أن نجد مكانا لنا فقط، لا لغيرنا، وأن إثبات هويتنا هو أهم من العلاقة مع الذين نلقاهم كل يوم في حياتنا. نحن الكهنة أيضًا، في خدمتنا الكهنوتية، قد نخلط مرارًا بين الخدمة وفرض سلطتنا، ونَصِلُ أحيانا إلى حد استغلال السلطة التي بين أيدينا، كما شهدنا مع الأسف في هذه الأيام. بدل تقديم الخدمة لكي تكون حياة للناس، بدل أن نخدم الإنجيل قد نستخدم الإنجيل لخدمة أنفسنا ومصالحنا. إننا نضع أنفسنا مرارا في مواقف يطلب منا المسيح فيها أن نخسر حياتنا في سبيله. لعلنا أحيانا فضلنا أن نخسر المسيح من أجل حياتنا ومواقفنا.
“إن لم أغسل قدميك، لن يكون لك نصيب معي” (يوحنا ١٣: ٨). لنكون مع المسيح، ولنجد الحياة الحقيقية، يعني أن نقبل نعمة الله، يعني أن نعرف كيف نواجه تحدي الأخُوّة، بل المحبة. في آخر مساء من حياته، لا يُعطينا يسوع فقط مثالا صالحا، بل يُبيِّن لنا معنى ومنطق الحياة الحقيقية. الحياة تعني الانفتاح، والانحناء أمام الآخر، وأن نبذل نفسنا في سبيل غيرنا. إن أردنا أن نخلّص عالمنا، يجب أن ننتقل من الخوف إلى الثقة، من أيديولوجيا الحدود ورفض الآخر والعدو إلى ثقافة العلاقة. يعني أن ننحني أمام الآخر، ولكن لنرفعه، مدفوعين بمشاعر الصداقة والمحبة. هذا ما يذكرنا به المعلم اليوم.
هنا في الأرض المقدسة وفي أبرشيتنا، نداء يسوع له معنى خاص لأنه يستجيب لما نعيشه اليوم: فهو يُبيّن لنا كيف نكون كنيسة اليوم وهنا، في هذا الجزء من العالم، وكيف نحقق الأخُوّة بحسب المثال الذي قدَّمه لنا المسيح. يسوع في الواقع يبيِّن لنا وجه الله: “من رآني رأى الآب” (يوحنا ١٤: ٩). فيه نعرف أننا أبناء لأب واحد. ولهذا نريد أن نبني علاقاتنا كإخوة، ولو كنا أفرادًا في عدة قوميات، وثقافات وديانات. من دون المسيح لا ثبات ولا نجاح لمشاريعنا. المسيح ليس وجهًا مبهمًا، بل هو ذلك المسيح الذي في عشية آلامه وموته يغسل أقدام الرسل، وفي هذا التنازل يتعلم المسيحي معنى الأخُوّة.
أن نكون مسيحيين، أن نكون كهنة، أن نكون إنسانا، رجالا ونساء، محتفلين بالفصح، يعني أن نقتدي بالمسيح ونشاركه في العطاء والانفتاح والانحناء أمام الغير، من غير أن ننحني لننحاز مع مصالح أي طرف. الحب المسيحي ليس مشاعر عابرة، ولكنه وصية إلهية للخروج من ذاتنا لنذهب للقاء الآخر، في رحلة مستمرة، فلا نعود ننغلق في ذاتنا. هذا هو خروجنا الفصحي، أن نخرج من سجون فرديتنا وأنانيتنا، من استعباد مخاوفنا، من انغلاقات أنانيتنا، لندخل أرض الميعاد الحقيقية، حيث اللقاء والضيافة والعطاء. الآخر المختلف ليس تهديدًا ولا خطرًا، بل هو نداء إلى الحب، وفرصة للخدمة، ومكان للشهادة.
“ستفهم ذلك في ما بعد” (يوحنا ١٣: ٧). “في ما بعد“، يسوع يعني ساعة الصليب والموت الفصحي، أي المرور من الموت إلى الحياة. يعني ساعة القيامة حين تنكشف خصوبة الحياة المبذولة، من أجل الحب. نحن اليوم في هذا الاحتفال المقدس، نحن في لحظة الـ” في ما بعد” التي أشار إليها يسوع. نور الفصح ونعمته يحيطان بنا، الفصح الذي حصل مرة واحدة فقط، ثم بقي دائمًا. نحن آمنا بالحب، سلَّمنا حياتنا للمسيح المصلوب والقائم من بين الأموات، وبالإيمان وبنعمة الأسرار تَصوَّرنا بصورته. ولكننا ما زلنا نعيش في لحظة الـ“ما بعد” حيث لم يحقَّقْ فيها الفصح بعد، بل حيث ننتظر تتمَّة الفصح فينا. ما زلنا بحاجة إلى أن نتعلّم مع بطرس وبفضله حكمة الصليب.
يجب أن نقبل بما قدمه لنا المسيح. لن نكون إخوة ما لم نعترف بالأب الواحد للجميع، ما لم نقبل العائلة التي ننتمي إليها. ولهذا أشعر بالحاجة لأدعوكم جميعا لتلتفتوا إلى الآخر، وإلى الآب السماوي أب الجميع. كلنا يجب أن نسمع دائما كلمة يسوع لما قال إنا أدعوكم “أصدقائي“.
أنا أكيد أن انتماءنا إلى الكنيسة لا يمكن أن يُحصَر في انتماء طائفي منغلق. الانتماء إلى الكنيسة هو مشروع جماعة تعيش حياة الشركة والأخُوّة. وهذا يقتضي نظرة شمولية تتجاوز الاختلافات، والأحقاد، والطائفيات، لنعيش دعوة واحدة، ومعمودية واحدة، ورغبة واحدة. كلنا يجب أن نصلي، ونكثر من الصلاة، ومع بطرس نترك المسيح يقنعنا ليغسل أقدامنا كما صنع معه. كلنا يجب أن نحتفل بإيمان وتقوى بأسرار هذه الليتورجيا، وبرموز الزيوت المقدسة، التي وُضِعَت بين أيدينا. نترك أنفسنا بين يديه، نقبل أن يخدمنا، وبعد ذلك فقط سنكون قادرين على الانحناء أمام الآخرين. إن أردنا ألا ينظر الناس إلى خدمتنا نظرهم إلى أية خدمة عامة أو أعمال خيرية عامة، يجب أن نجدد كل يوم إيماننا بالمسيح وبانتصاره على الموت. الخدمة الحقيقية التي تخلّص هي ثمرة الإيمان وهي جواب المؤمن الساجد أمام الله، يشكره لهبته السامية، هبة مجانية نقابلها بالشكر وعرفان الجميل. يريد المسيح أن نكون أصدقاء لا عبيدا، ولكننا نخدم خدمتنا حقا “بعده“، أي بعد تتمة الفصح فينا.
ثم يجب أن نبدِّل فكرنا بفكر المسيح. هنا حيث بدأ إيمان بطرس بسر القيامة والفصح، يجب أن نعترف بقلة إيماننا، والصعوبة التي بها نقبل منطق الصليب، ثم نتخذ قرارنا ونختاره هو. تجديد المواعيد الكهنوتية اليوم، وتجديد مواعيد المعمودية بعد غد، في العشية الفصحية، لتكن لنا توبة ورجوعا إلى المسيح. قال سمعان بطرس: “ليس فقط قدميَّ، يا رب، بل يديَّ ورأسي” (يوحنا ١٣: ٩). مثل بطرس يمكن أن ننتقل من عدم الفهم إلى الإيمان المندفع، لنصير بالرغم من ضعفنا، كل واحد بحسب شخصيته وظروفه، مبدأ وأساسًا منظورًا للشركة والأخوة.
+ بييرباتيستا